فصل: مناسبة الآية لما قبلها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَد بِسَنَدٍ جَيِّد عَنْ غُضَيْف بْن الْحَارِث قال بَعَثَ إِلَيَّ عَبْد الْمَلِك بْن مَرْوَان فَقال: إِنَّا قَدْ جَمَعْنَا النَّاس عَلَى رَفْع الْأَيْدِي عَلَى الْمِنْبَر يَوْم الْجُمُعَة، وَعَلَى الْقَصَص بَعْد الصُّبْح وَالْعَصْر، فَقال: أَمَّا إِنَّهُمَا أَمْثَل بِدَعكُمْ عِنْدِي وَلَسْت بِمُجِيبِكُمْ إِلَى شَيْء مِنْهُمَا لِأَنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قال: «مَا أَحْدَثَ قَوْمٌ بِدْعَةً إِلَّا رُفِعَ مِنْ السُّنَّة مِثْلُهَا؛ فَتَمَسُّكٌ بِسَنَةِ خَيْرٌ مِنْ إِحْدَاثِ بِدْعَةٍ». اِنْتَهَى وَإِذَا كَانَ هَذَا جَوَاب هَذَا الصَّحَابِيّ فِي أَمْر لَهُ أَصْل فِي السُّنَّة فَمَا ظَنَّك بِمَا لَا أَصْل لَهُ فِيهَا، فَكَيْف بِمَا يَشْتَمِل عَلَى مَا يُخَالِفهَا. وَقَدْ مَضَى فِي (كِتَاب الْعِلْم) أَنَّ اِبْن مَسْعُود كَانَ يُذَكِّر الصَّحَابَة كُلّ خَمِيس لِئَلَّا يَمَلُّوا وَمَضَى فِي (كِتَاب الرِّقَاق) أَنَّ اِبْن عَبَّاس قال: حَدِّثْ النَّاس كُلّ جُمْعَة فَإِنْ أَبَيْت فَمَرَّتَيْنِ، وَنَحْوه وَصِيَّة عَائِشَة لِعُبَيْدِ بْن عُمَيْر، وَالْمُرَاد بِالْقَصَصِ التَّذْكِير وَالْمَوْعِظَة، وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ فِي عَهْد النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لَكِنْ لَمْ يَكُنْ يَجْعَلهُ رَاتِبًا كَخُطْبَةِ الْجُمُعَة بَلْ بِحَسْب الْحَاجَة، وَأَمَّا قوله فِي حديث الْعِرْبَاض «فَإِنَّ كُلّ بِدْعَة ضَلَالَة» بَعْد قوله «وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَات الْأُمُور» فَإِنَّهُ يَدُلّ عَلَى أَنَّ الْمُحْدَث يُسَمَّى بِدْعَة وَقوله «كُلّ بِدْعَة ضَلَالَة» قَاعِدَة شَرْعِيَّة كُلِّيَّة بِمَنْطُوقِهَا وَمَفْهُومهَا، أَمَّا مَنْطُوقهَا فَكَأَنْ يُقال (حُكْم كَذَا بِدْعَة وَكُلّ بِدْعَة ضَلَالَة) فَلَا تَكُون مِنْ الشَّرْع لِأَنَّ الشَّرْع كُلّه هَدْي، فَإِنْ ثَبَتَ أَنَّ الْحَكَم الْمَذْكُور بِدْعَة صَحَّتْ الْمُقَدِّمَتَانِ، وَأَنْتَجَتَا الْمَطْلُوب، وَالْمُرَاد بِقولهِ «كُلّ بِدْعَة ضَلَالَة» مَا أُحْدِث وَلَا دَلِيل لَهُ مِنْ الشَّرْع بِطَرِيقِ خَاصّ وَلَا عَامّ. وَقوله فِي آخِر حديث اِبْن مَسْعُود {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} أَرَادَ خَتْم مَوْعِظَته بِشَيْءٍ مِنْ القرآن يُنَاسِب الْحَال. وَقال اِبْن عَبْد السَّلَام: فِي أَوَاخِر (الْقَوَاعِد) الْبِدْعَة خَمْسَة أَقْسَام (فَالْوَاجِبَة) كَالِاشْتِغَالِ بِالنَّحْوِ الَّذِي يُفْهَم بِهِ كَلَام اللَّه وَرَسُوله لِأَنَّ حِفْظ الشَّرِيعَة وَاجِب، وَلَا يَتَأَتَّى إِلَّا بِذَلِكَ فَيَكُون مِنْ مُقَدَّمَة الْوَاجِب، وَكَذَا شَرْح الْغَرِيب وَتَدْوِين أُصُول الْفِقْه وَالتَّوَصُّل إِلَى تَمْيِيز الصَّحِيح وَالسَّقِيم (وَالْمُحَرَّمَة) مَا رَتَّبَهُ مَنْ خَالَفَ السُّنَّة مِنْ الْقَدَرِيَّة وَالْمُرْجِئَة وَالْمُشَبِّهَة (وَالْمَنْدُوبَة) كُلّ إِحْسَان لَمْ يُعْهَد عَيْنُهُ فِي الْعَهْد النَّبَوِيّ كَالِاجْتِمَاعِ عَلَى التَّرَاوِيح وَبِنَاء الْمَدَارِس وَالرُّبَط وَالْكَلَام فِي التَّصَوُّف الْمَحْمُود وَعَقْد مَجَالِس الْمُنَاظَرَة إِنْ أُرِيدَ بِذَلِكَ وَجْه اللَّه (وَالْمُبَاحَة) كَالْمُصَافَحَةِ عَقِب صَلَاة الصُّبْح وَالْعَصْر، وَالتَّوَسُّع فِي الْمُسْتَلَذَّات مِنْ أَكْل وَشُرْب وَمَلْبَس وَمَسْكَن. وَقَدْ يَكُون بَعْض ذَلِكَ مَكْرُوهًا أَوْ خِلَاف الْأَوْلَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ. اهـ.

.قال في تحفة الأحوذي:

(وَمَنْ اِبْتَدَعَ بِدْعَةَ ضَلَالَةٍ).
قال صَاحِبُ الدِّينِ الْخَالِصِ قال فِي الْمِرْقَاةِ قَيَّدَ بِهِ لِإِخْرَاجِ الْبِدْعَةِ الْحَسَنَةِ وَزَادَ فِي أَشِعَّةِ اللُّمَعَاتِ لِأَنَّ فِيهَا مَصْلَحَةَ الدِّينِ وَتَقْوِيَتَهُ وَتَرْوِيجَهُ اِنْتَهَى. وَأَقول هَذَا غَلَطٌ فَاحِشٌ مِنْ هَذَيْنِ الْقَائِلَيْنِ لِأَنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَرْضَيَانِ بِدْعَةً أَيَّ بِدْعَةٍ كَانَتْ وَلَوْ أَرَادَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِخْرَاجَ الْحَسَنَةِ مِنْهَا لَمَا قال فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْأَحَادِيثِ «كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ» كَمَا وَرَدَ بِهَذَا اللَّفْظِ فِي حديث آخَرَ بَلْ هَذَا اللَّفْظُ لَيْسَ بِقَيْدٍ فِي الْأَصْلِ هُوَ إِخْبَارٌ عَنْ الْإِنْكَارِ عَلَى الْبِدَعِ وَأَنَّهَا مِمَّا لَا يَرْضَاهُ اللَّهُ وَلَا رَسُولُهُ وَيُؤَيِّدُهُ قولهُ تعالى: {رَهْبَانِيَّةً اِبْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} وَأَمَّا ظَنُّ مَصْلَحَةِ الدِّينِ وَتَقْوِيَتِهِ فِيهَا فَمِنْ وَادِي قولهِ سبحانه: {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} وَلَا أَدْرِي مَا مَعْنَى قولهِ سبحانه: {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} وَلَا أَدْرِي مَا مَعْنَى قولهِ تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْت لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْت عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيت لَكُمْ الْإِسْلَامَ دِينًا} إِنْ كَانَتْ تِلْكَ الْمَصْلَحَةُ فِي تَرْوِيجِ الْبِدْعَاتِ يَا اللَّهُ الْعَجَبُ مِنْ أَمْثَالِ هَذِهِ الْقالةِ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ فِي إِشَاعَةِ الْبِدَعِ إِمَاتَةَ السُّنَنِ وَفِي إِمَاتَتِهَا إِحْيَاءُ الدِّينِ وَعُلُومِهِ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ دِينَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ كَامِلٌ تَامٌّ غَيْرُ نَاقِصٍ وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى شَيْءٍ فِي كَمَالِهِ وَإِتْمَامُهُ وَنُصُوصُهُ مَعَ أَدِلَّةِ السُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ كَافِيَةٌ وَافِيَةٌ شَافِيَةٌ لِجَمِيعِ الْحَوَادِثِ وَالْقَضَايَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ اِنْتَهَى مَا فِي الدِّينِ الْخَالِصِ مُخْتَصَرًا. قُلْت: قولهُ بِدْعَةٌ ضَلَالَةٌ يُرْوَى بِالْإِضَافَةِ وَيَجُوزُ أَنْ يُنْصَبَ مَوْصُوفًا وَصِفَةً، وَهَذِهِ الصِّفَةُ لَيْسَتْ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ الْبِدْعَةِ الْحَسَنَةِ بَلْ هِيَ صِفَةٌ كَاشِفَةٌ لِلْبِدْعَةِ يَدُلُّ عَلَيْهِ قولهُ صلى الله عليه وسلم: «كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» كَمَا فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ عَنْ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (لَا يَرْضَاهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ) هَذَا أَيْضًا صِفَةٌ كَاشِفَةٌ بِقولهِ بِدْعَةٌ.
قولهُ: (هَذَا حديث حَسَنٌ) وَأَخْرَجَهُ اِبْنُ مَاجَهْ وَالْحديث ضَعِيفٌ لِضَعْفِ كَثِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَقَدْ اُعْتُرِضَ عَلَى تَحْسِينِ التِّرْمِذِيِّ لِحديثهِ. قال الْمُنْذِرِيُّ فِي التَّرْغِيبِ بَعْدَ نَقْلِ تَحْسِينِ التِّرْمِذِيِّ بَلْ كَثِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ مَتْرُوكٌ وَاهٍ وَلَكِنْ لِلْحديث شَوَاهِدُ اِنْتَهَى. اهـ.

.قال السيوطي:

(وَأَحْسَن الْهَدْي هَدْي مُحَمَّد).
قال الْقُرْطُبِيّ: بِضَمِّ الْهَاء وَفَتْح الدَّال فِيهِمَا وَبِفَتْحِ الْهَاء وَسُكُون الدَّال فِيهِمَا وَهُمَا مِنْ أَصْل وَاحِد وَالْهُدَى بِالضَّمِّ الدَّلَالَة وَالْإِرْشَاد وَالْهَدْي بِالْفَتْحِ الطَّرِيق يُقال فُلَان حَسَن الْهَدْي أَيْ الْمَذْهَب فِي الْأُمُور كُلّهَا أَوْ السِّيرَة (وَشَرّ الْأُمُور مُحْدَثَاتهَا).
قال الْقُرْطُبِيّ: يَعْنِي الْمُحْدَثَات الَّتِي لَيْسَ فِي الشَّرِيعَة أَصْل يَشْهَد لَهَا بِالصِّحَّةِ وَهِيَ الْمُسَمَّاة بِالْبِدَعِ (وَكُلّ بِدْعَة ضَلَالَة) قال النَّوَوِيّ هَذَا عَامّ مَخْصُوص، وَالْمُرَاد غَالِب الْبِدَع قال أَهْل اللُّغَة الْبِدْعَة كُلّ شَيْء عُمِلَ عَلَى غَيْر مِثَال سَابِق قال الْعُلَمَاء: الْبِدْعَة خَمْسَة أَقْسَام: وَاجِبَة وَمَنْدُوبَة وَمُحَرَّمَة وَمَكْرُوهَة وَمُبَاحَة؛ فَمِنْ الْوَاجِبَة نَظْم أَدِلَّة الْمُتَكَلِّمِينَ لِلرَّدِّ عَلَى الْمَلَاحِدَة الْمُبْتَدِعِينَ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ وَمِنْ الْمَنْدُوبَة تَصْنِيف كُتُب الْعِلْم وَبِنَاء الْمَدَارِس وَالرُّبُط وَغَيْر ذَلِكَ وَمِنْ الْمُبَاحَة التَّبَسُّط فِي أَلْوَان الْأَطْعِمَة وَغَيْر ذَلِكَ وَالْحَرَام وَالْمَكْرُوه ظَاهِرَانِ وَإِذَا عُرِفَ ذَلِكَ عُلِمَ أَنَّ الْحديث وَمَا أَشْبَهَهُ مِنْ الْعَامّ الْمَخْصُوص يُؤَيِّدهُ قول عُمَر فِي التَّرَاوِيح: نِعْمَتْ الْبِدْعَة وَلَا يَمْنَع مِنْ كَوْن الْحديث عَامًّا مَخْصُوصًا قوله كُلّ بِدْعَة بِكُلٍّ بَلْ يَدْخُلهُ التَّخْصِيص مَعَ ذَلِكَ كَقولهِ تعالى تُدَمِّر كُلّ شَيْء. اهـ.

.قال بدر الدين العيني:

البدعة على نوعين إن كانت مما يندرج تحت مستحسن في الشرع فهي بدعة حسنة وإن كانت مما يندرج تحت مستقبح في الشرع فهي بدعة مستقبحة. اهـ.

.قال صاحب دليل الفالحين:

(وإياكم ومحدثات الأمور) كلاهما منصوب بفعل مضمر أي: باعدوا أنفسكم واحذروا الأخذ بالأمور المحدثة في الدين واتباع غير سنن الخلفاء الراشدين (فإن) ذلك بدعة وإن (كل بدعة) وهي لغة المخترع على غير مثال سابق. وشرعًا ما أحدث على خلاف أمر الشارع، ودليله الخاص أو العام (ضلالة) لأن الحق فيما جاء به الشرع فما لا يرجع إليه يكون ضلالة، إذ ليس بعد الحق إلا الضلال، والمراد بالضلالة هنا ما ليس له أصل في الشرع وإنما حمل عليه مجرد الشهوة أو الإرادة، بخلاف محدث له أصل في الشرع إما بحمل النظر على النظير أو بغير ذلك فإنه حسن، إذ هو سنة الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين فمنشأ الذم في البدعة ليس مجرد لفظ محدث أو بدعة بل ما اقترن به من مخالفته للسنة ورعايته للضلالة، ولذا انقسمت البدعة إلى الأحكام الخمسة، لأنها إذا عرضت على القواعد الشرعية لم تخل عن واحد منها، فمن البدع الواجبة على الكفاية تعلم العلوم المتوقف عليها فهم الكتاب والسنة والتي فيها حفظ الشريعة، لأن حفظها واجب على الكفاية فيما زاد على التعين ولا يتأتى حفظها إلا بذلك فوجب.
ومن البدع المحرّمة مذاهب سائر أهل البدع المخالفة لما عليه أهل السنة والجماعة. ومن المندوبة كل إحسان لم يعهد في الصدر الأول كإحداث نحو الربط والمدارس والكلام في دقائق التصوف. ومن المكروهة زخرفة المساجد وتزويق المصاحف، ومن المباحة التوسع في لذيذ المآكل والمشارب؛ فعلم أن قوله: «وكل بدعة ضلالة» عام أريد به خاص إذ سنة الخلفاء الراشدين منها مع أنا أمرنا باتباعها لرجوعها إلى أصل شرعي وكذا سنتهم عام أريد به خاص، إذ لو فرض خليفة راشد سنّ سنة لا يعضدها دليل شرعي امتنع اتباعها، ولا ينافي ذلك رشده لأنه قد يخطىء المصيب ويزيغ المستقيم يومًا ما (رواه) أحمد والدارمي في (مسنديهما).
ورواه عن أحمد (أبو داود) في (سننه) (و)كذا (الترمذي وقال: حديث صحيح) وفي الأربعين للمصنف: وقال حديث حسن، وفي نسخة من كل من الرياض والأربعين: وقال صحيح حسن. اهـ.

.قال الزرقاني في شرح الموطأ:

(فقال عمر: نعمت البدعة هذه) وصفها بنعمت لأن أصل ما فعله سنة وإنما البدعة الممنوعة خلاف السنة. وقال ابن عمر في صلاة الضحى: نعمت البدعة. وقال تعالى: {ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله} [الحديد: 27] وأما ابتداع الأشياء من عمل الدنيا فمباح قاله ابن عبد البر. وقال الباجي: نعمت التاء على مذهب البصريين لأن نعم فعل لا يتصل به إلا التاء، وفي نسخ نعمه بالهاء وذلك على أصول الكوفيين، وهذا تصريح منه بأنه أوّل من جمع الناس في قيام رمضان على إمام واحد لأن البدعة ما ابتدأ بفعلها المبتدع ولم يتقدّمه غيره فابتدعه عمر وتابعه الصحابة والناس إلى هلم جرا، وهذا يبين صحة القول بالرأي والاجتهاد انتهى. فسماها بدعة لأنه صلى الله عليه وسلم لم يسنّ الاجتماع لها ولا كانت في زمان الصدّيق وهو لغة ما أحدث على غير مثال سبق، وتطلق شرعًا على مقابل السنة وهي ما لم يكن في عهده صلى الله عليه وسلم ثم تنقسم إلى الأحكام الخمسة، وحديث: «كل بدعة ضلالة» عام مخصوص وقد رغب فيها عمر بقوله: نعمت البدعة وهي كلمة تجمع المحاسن كلها، كما أن بئس تجمع المساوي كلها، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر» وإذا أجمع الصحابة على ذلك مع عمر زال عنه اسم البدعة. اهـ.

.تفسير الآيات (28- 29):

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما قرر سبحانه أن الرسل دعاة للحق إلى سيدهم طوعًا أو كرهًا بالكتاب والحديد، وقرر أن السعادة كلها في اتباعهم، وأن البدع لا تأتي بخير وإن زين الشيطان أمرها وخيل أنه خير، وأن أصحاب الذي كان نسخ شريعة من قبله ابتدعوا بدعة حسنة فوكلوا إليها ففسق أكثرهم، فاقتضى ذلك إرسال من ينسخ كل شريعة تقدمته نسخًا لا زوال له لأنه لا نبي بعده ونهى عن البدع نهيًا لم يتقدمه أحد إلى مثله، أنتج ذلك قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا} أي أقروا بذلك إقرارا صحيحًا بنبي مما تقدم أو بالنبي- صلى الله عليه وسلم- {اتقوا الله} أي خافوا عقابه فاجعلوا بينكم وبين سخطه- لأنه الملك الأعظم- وقاية بحفظ الأدب معه ولا تأمنوا مكره، فكونوا على حذر من أن يسلبكم ما وهبكم، فاتبعوا الرسول تسلموا، وحافظوا على اتباعه لئلا تهلكوا {وآمنوا برسوله} أي الذي لا رسول له الآن غيره، إيمانًا مضمومًا إلى إيمانكم بالله فإنه لا يصح الإيمان به إلا مع الإيمان برسوله، وبأن تثبتوا على الإيمان به، وتضموا الإيمان به إلى الإيمان بمن تقدمه يا أهل الكتاب، لأن رسالته عامة، لقد نسخ جميع ما تقدمه من الأديان فإياكم أن يميلكم عنه ميل من حسد أو غيره، فبادروا إلى إجابته والزموا جميعًا حذره فلا تميلوا إلى بدعة أصلًا {يؤتكم} ثوابًا على اتباعه {كفلين} أي نصيبين ضخمين {من رحمته} تحصينًا لكم من العذاب كما يحصن الكفل الراكب من الوقوع، وهو كساء يعقد على ظهر البعير فيلقى مقدمه على الكاهل ومؤخره على العجز، وهذا التحصين لأجل إيمانكم به- صلى الله عليه وسلم- وإيمانكم بمن تقدمه مع خفة العمل ورفع الأصار وهو أعلى بالأجر من الذي عمل الخير في الجاهلية، وقال النبي- صلى الله عليه وسلم- لمن سأله عنه «أسلمت على ما أسلفت من خير» ودل على أن الكفلين برفع الدرجات وإفاضة خواص من الخيرات بقوله: {ويجعل لكم} أي مع ذلك {نورًا} مجازيًا في الأولى بالتوفيق للعمل من المعلوم والمعارف القلبية وحسيًا في الآخرة بسبب العمل {تمشون به} أي مجازًا في الأولى بالتوفيق للعمل، وحقيقة في الآخرة بسبب العمل.
ولما كان الإنسان لا يخلو من نقصان، فلا يبلغ جميع ما يحق للرحمن، قال: {ويغفر لكم} أي ما فرط منكم من سهو وعمد وهزل وجد.
ولما قرر سبحانه وذلك، أتبعه التعريف بأن الغفران وما يتبعه صفة له شاملة لمن يريده فقال: {والله} أي المحيط بجميع صفات الكمال والعظمة والكبرياء {غفور} أي بليغ المحو للذنب عينًا وأثرًا {رحيم} أي بليغ الإكرام لمن يغفر له ويوفقه للعمل بما يرضيه.
ولما كان أهل الكتاب قد تابعوا أهويتهم على بغض الأميين، وأشربت قلوبهم أن النبوة مختصة بهم لأنهم أولاد إبراهيم عليه السلام من ابنة عمه، والعرب- وإن كانوا أولاده- فإنهم من الأمة وما دروا أن كونهم من أولاده مرشح لنبوة بعضهم وكونهم من الأمة، مهيئ لعموم الرسالة لأجل عموم النسب، قال دالًا على أنهم صاروا كالبهائم لا يبصرون إلا المحسوسات معلقًا الجار ب {آمنوا} و{يؤتكم} وما بعده: {لئلا يعلم} أي ليعلم علمًا عظيمًا يثبت مضمون خبره وينتفي ضده- بما أفاده زيادة النافي {أهل الكتاب} أي من الفريقين الذي اقتصروا على كتابهم وأنبيائهم ولم يؤمنوا بالنبي الخاتم وما أنزل {ألا} أي أنهم لا {يقدرون} أي في زمن من الأزمان {على شيء} أي وإن قل {من فضل الله} أي الملك الأعلى الذي خصكم بما خصكم به لا يمنع ولا بإعطائكم حيث نزع النبوة منهم ووضها في بني عمهم إسماعيل عليه السلام الذي كانوا لا يقيمون لهم وزنًا فيقولون: إنهم بنو الأمة، وإنهم أميون، وإنهم ليس عليهم منهم سبيل، وجعل النبوة التي خصكم بها عامة- كما أشار إليه ما في ابن الأمة من شمول بنسبته وانشعابه وحيث عملوا كثيرًا وأعطوا قليلًا: «اليهود من أول النهار على قيراط قيراط، والنصارى من الظهر على قيراط قيراط، وهذه الأمة من صلاة العصر على قيراطين قيراطين، فقال الفريقان: ما لنا أكثر عملًا وأقل أجرًا، قالك هل ظلمتكم من حقكم شيئًا، قالوا: لا، قال: ذلك فضلي أوتيه من أشاء» وذكر ابن برجان معنى هذا الحديث- كما تقدم عنه قريبًا- من الإنجيل وطبقه عليه وذكرته أنا في الأعراف، روى الإمام أحمد في مواضع من المسند والبخاري في سبعة مواضع في الصلاة والإجارة وذكر بني إسرائيل وفضائل القرآن والتوحيد، والترمذي في الأمثال- وقال: حسن صحيح- من وجوه شتى جمعت بين ألفاظها عن ابن عمر- رضى الله عنهما- أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: «مثلكم»-
وفي هذه الرواية: «مثل هذه الأمة»، وفي رواية: «مثل أمتي» وفي رواية: إنما مثلكم ومثل اليهود والنصارى كرجل، وفي رواية: «مثلكم ومثل أهل الكتابين كمثل رجل استعمل عملاء»، وفي رواية: «استأجر أجراء» فقال: «من يعمل لي من صلاة الصبح» وفي رواية أخرى: «من غدوة إلى نصف النهار على قيراط، ألا فعملت اليهود»- وفي رواية: «قالت اليهود: نحن- فعملوا، ثم قال: من يعمل لي من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط، ألا فعملته النصارى»، وفي رواية: «قالت النصارى: نحن، فعملوا، ثم قال: من يعمل لي من صلاة العصر إلى غروب الشمس».
- وفي رواية: إلى أن تغيب الشمس- «على قيراطين قيراطين، ألا فأنتم الذين عملتم»، وفي رواية: «تعملون»، وفي رواية «وأنتم المسلمون تعملون من صلاة العصر إلى الليل»، وفي رواية «إلى مغارب»، وفي رواية: «مغرب الشمس على قيراطين قيراطين قيراطين ألا لكم الأجر مرتين، فغضبت اليهود والنصارى» وقالوا: «نحن»- وفي رواية: «ما لنا- أكثر عملًا وأقل عطاء»، وفي رواية «أجرًا، قال الله تعالى هل»- وفي رواية: «وهل- نقصتكم-» وفي رواية: «هل ظلمتكم- من حقكم شيئًا-» وفي رواية: «أجركم شيئًا، قالوا: لا، قال: فإنه»- وفي رواية: «فإنما- هو فضل»، وفي رواية: «فذلك فضلي أوتيه من أشاء»، وفي رواية: «أعطيه من شئت» وفي رواية: سمعت النبي- صلى الله عليه وسلم- وهو قائم على المنبر يقول: «ألا إن بقاءكم»، وفي رواية: «إنما بقاؤكم»، وفي رواية: «إنما أجلكم في أجل من خلا من الأمم»- وفي رواية: «فيما سلف من قبلكم من الأمم كما بين صلاة العصر والمغرب»- وفي رواية: «إلى غروب الشمس»، وفي رواية: «ألا إن مثل آجالكم في آجال الأمم قبلكم كما بين صلاة العصر إلى مغيربان»، وفي رواية: «إلى مغرب»، وفي رواية: «إلى مغارب الشمس، أعطي»- وفي رواية: «أوتي- أهل التوراة التوراة، فعملوا بها حتى انتصف النهار فعجزوا، فأعطوا قيراطًا قيراطًا، وأعطي»- وفي رواية: «ثم أوتي- أهل الإنجيل الإنجيل فعملوا به حتى»- وفي رواية: «إلى- صلاة العصر»، وفي رواية «حتى صليت العصر، ثم عجزوا فأعطوا قيراطًا قيراطًا، ثم أعطيتم القرآن فعملتم به حتى غربت الشمس»، وفي رواية: «حتى غروب الشمس فأعطيتم قيراطين قيراطين»، وفي رواية: «ثم أوتينا القرآن فعملنا إلى غروب الشمس فأعطينا قيراطين قيراطين، فقال أهل الكتابين»- وفي رواية: «أهل التوراة والإنجيل- ربنا هؤلاء أقل منا عملًا وأكثر أجرًا»، وفي رواية: «جزاء»، وفي رواية: «أي ربنا أعطيت هؤلاء قيراطين قيراطين وأعطتينا قيراطًا قيراطًا، ونحن أكثر عملًا منهم، قال الله تبارك وتعالى: هل- وفي رواية: فهل- ظلمتكم من أجركم- وفي رواية: من أجوركم- من شيء؟ فقالوا: لا، فقال: فهو فضلي- وفي رواية: فذلك فضلي- أوتيه من أشاء» وقد أخذ بعض العلماء من هذا الحديث ما قبل هذه الأمم وترك على ذلك أحوالهم فقال: إنه دال على قوم نوح وإبراهيم عليهما السلام، كان لهم الليل، فكان قوم نوح في أوله في ظلام صرف طويل لم يلح لهم شيء من تباشير الضياء ولا أمارات الصبح، ونوح عليه السلام يخبرهم به ويأمرهم بالتهيؤ له، فلذلك طال بلاؤه عليه السلام بهم، وما آمن معه إلا قليل، وأما قوم إبراهيم عليه السلام فكانوا كأنهم في أواخر الليل، قد لاحت لهم تباشير الصباح وأومضت لهم بوارق الفلاح، فلذلك آمن لوط عليه السلام وكذا سارة زوجته وأولاده منها ومن غيرها كلهم، واستمر الإسلام في أولاده والنبوة حتى جاء موسى عليه السلام، فكان وقته كما بين الصبح والظهر، فكان قومه تارة وتارة، تارة يحسبون أنهم في ضياء كيفما كانوا، فيروغون يمينًا وشمالًا فيكونون كمن دخل غيرانًا وكهوفًا وأسرابًا ثم يخرجون منها فيرجعون إلى الضياء، فكانت غلطاتهم تارة كبارًا وتارة صغارًا، وأما قوم عيسى عليه السلام فكانوا كمن هو في الظهيرة في شدة الضياء فالغلط منه لا يكون إلا عن عمى عظيم، فلذلك كان غلطهم أفظع الغلط وأفحشه- والله الموفق- {وإن} أي ولتعلموا أن {الفضل} أي الذي لا يحتاج إليه من هو عنده {بيد الله} أي الذي له الأمر كله {يؤتيه من يشاء} منهم أو من غيرهم نبوة كانت أو غيرها.